للدّولة دورٌ مهمٌّ في تنظيمِ حياة النّاس والمجتمعات البشريّة. ويعود المظهر الأوّل للدّولة إلى نوح الّذي أعطاه الله سلطان الحكم والعدل بين النّاس. وكانت الحياة في البداية زراعيّة وغير منتظمة بكيانات سياسيّة، وتطوَّرَ الحكم فيها من نظامٍ أبويّ يحكم العشيرة، إلى نظامِ الدّولة المدينة، فإلى الدّولة المملكة، فالدّولة الأمّة، وصولاً إلى دولة المواطنة. ومن نوح "تفرّقت الأمم في الأرض"، وجاء نمرود، الّذي أسّس مدينته بابل لتصير مملكةً واسعةَ الأطراف. ومثله أسّس رومولوس مدينة روما الّتي كبرت لتصير الأمبراطورية الرومانيّة.
وتكلّم سقراط وأفلاطون وأرسطو، في القرن الرّابع قبل الميلاد، عن "الدّولة-المدينة" كالإطار السياسيّ الإجتماعيّ الّذي يُنظّم الحياة العامّة وإدارة مجتمع المدينة Polis. ونشأ من تعريفهم، ومن الممارسة في أثينا بشكلٍ خاصّ، الأساس الفكريّ المشترك للدّولة في صِيَغِها المتنوّعة والّذي استمرّ ليومنا الحاليّ. وكان ماكيافيلّلي أوّل من استخدم عبارة "الدّولة" في معناها المعاصر لتصف هيئة مركزيّة حاكمة في بلدٍ له حدودٌ معترفٌ بها وذلك في كتابه "الأمير" (1513). ونشأت الدّولة الحديثة، كهيئةٍ سياسيّةٍ، تُمارس السّلطة السياسيّة في الوطن، بعد معاهدة وستفاليا (1648). وكان الإصلاح الإنجيليّ قد شدّد في بيانات إيمانه في القرن السّادس عشر على أهميّة الدّولة والحفاظ عليها. وبعده جاءت الثّورة الفرنسيّة وحكت عن المساواة بين المواطنين وعن دور الحكومة والحُكّام في تحقيق المصلحة العامّة وذلك في "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" (1789).
وإنْ ظنَّ بعض الفوضويّين، Anarchists ، أنّه لا ضرورة للدّول ولا للحكومات، يرى الّلاهوت المسيحيّ وفلاسفة أمثال توماس هوبس (1588-1679) وجون لوك (1632-1704) أنّ الدّولة ضروريّة لضبط طبائع النّاس ولحفظ النّظام العامّ واستقرار المجتمع وتحقيق العدالة وفرض حكم القانون وتأمين مصالح المواطنين وحقوقهم من طبابة وتعليم وسكن وحماية من الاعتداءات الداخليّة والخارجيّة. ويُعرّف ماكس ويبر (1864-1920)، ومعه آخرون، أنّ الدولة هي المؤسّسة التي لها السلطة والسيادة والقدرة الأرفع على سائر القطاعات في المجتمعات ولها حصريّة استخدام السّلاح وحقّ التّفويض في تعيينات الوظائف العامّة وتحظى باعتراف الدّول الخارجيّة وحماية القانون الدوليّ.
أمّا، في ما لو انهارت الدولة المركزيّة ومؤسّساتها لأيّ سبب كان، فستقوم سلطات أمرٍ واقعٍ محليّة بقيادة قادة إقطاعيّين أو ميليشياويّين يحكمون مناطق نفوذهم حسبما يرتأون أو حسبما تقتضي مصالحهم الشّخصيّة. والتّجربة تقول أنّ هؤلاء القادة يعجزون أن يُقيموا عدلًا حقيقيًّا وحلولاً شاملة للأمّة، وهذا ما حصل في إيطاليا أيّام ماكيافيلّلي، في منتصف الألفيَّة الثانية، وحصل في لبنان بعد العام 1975. ويكون أكثر من يُعاني عند انهيار الدّولة هم الضّعفاء والفقراء والمسالمين من العجزة والنّساء والأطفال والمرضى والمعوّقين. وتُغتصب حقوق النّاس وتُنتهك حريّاتهم وكراماتهم وتُصادر الملكيّات الخاصّة والعامّة وتُنهَب موارد الدولة. فيصحّ وقتها القول المأثور الّذي وصف زمن الفوضى في سفر القضاة: "كان كلّ واحد يعمل ما يحسن في عينيه".
حذّر المسيح من ضرب وحدة المجتمع والدولة بقوله: "كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تَخْربُ" (مت 12: 25). وهو علّم المؤمنين أن يُعطوا "ما لقيصر لقيصر" ويكونوا مواطنين صالحين غير فاسدين ويدفعون الضّرائب ويُطيعون القوانين. وعلّم بولس الرّسول المؤمنين أن يحترموا الحاكم كونه "خادم الله للصّلاح" ولا ينخرطوا في تقويض سلطة الدّولة والنّظام العامّ (رو 13: 1، 4). فالمجتمع من دون دولة، غابةٌ لا يُعاش فيها. يقول المُصلِح جون كالفن في هذا الخصوص: "الَّذين يُدمّرون النّظام السّياسيّ هُم متمرّدون على الله".